
التحويلة
لم يستمع يوما لكل العبارات التي تصفه بالجنون ، لم توقفه سيل اللعنات اليومي التي تصبه زوجته السليطة علي أذنيه .
كان عم ابراهيم يسير من الطريق العمومي وسط نظرات التشفي والشفقه ، وهمهمات وتهكمات الجميع ، ويمر بمحاذاة الترعة مداعبا فروع أشجار الصفصاف التي تهدلت في دلال تغتسل من المياه الراكدة ويعبر الجسر الضيق المبني من جذوع الأشجار وقطع الخشب البالية المصقولة بالطين ليستقر به المقام في الضفة الأخري علي قطعة الحجر التي ألفت جسمه
مسندا ظهره علي النخلة البور التي لم تسقط عليه رطبا قط ، معلقا بصره بالقضبان المثبتة في الأرض يتلفت من حين لآخر ينظر إلي اتجاة الظل وموضع الشمس .
كلما حان موعد قطار أسرع إلي ذراع التحويلة الصدأ ووجذبه ويعود ليسجل علامة علي الصفحة الترابية أسفل قدمه بعود الحطب اليابس
الذي يقلب به الجمرات تحت غلاي الشاي الذي إعتاد أن يشربه مع بعض لقيمات الخبز اليابس إن وجد
كثيرا ما ترددت عليه امرأته سكينة محاولة إثناءه عما يفعل ، صارخة في وجهه ..لاعنة التحويلة وعقله الخرب الذي يرفض الإقتناع بأن التحويلة آلية ، وما يفعله ليس سوي ضرب من الجنون ، وإن لم تكن آلية فمن أعطاه هذا الدور إذن ليحمل أعباءه !!
كانت تنهره وتتعالي صراخاتها طالبة منه أن يبحث عن عمل مجدي فقد تقرحت يداها وخارت قوها من التنظيف في بيوت القرية لإطعام الأفواه الجائعة ؛
فكان يجيبها حانقا ومن يتولي التحويلة ، كيف سيتغير مسار القطارات ، أرواح الناس يا عالم! .
ذات يوم كان صراخ امرأته يتردد صداه مدويا في بلدتنا أكثرت من إهانته وسبابه وهو لم يرد عليها قط ، كانت تلك المرة الأولي التي أري فيها عم إبراهيم منحنيا حتي كادت جبهته تلامس الأرض
ربت علي كتفه فإنزلقت دمعة من عينه رغما عنه
سألته
- ألم يكن ينبغي عليك العودة معها إلي البيت
- ما زلت أنتظر القطار القادم في آذان العشاء
- الوقت ما زال مبكرا بإمكانك أن تعود إلي البيت الآن وتعاود المجيء في موعد القطار
- الطل أرحم من صوت سكينه ، أحب أن ارح اذناي منها ومن صراخ الصغار
- لماذا لا تحاول أن تغير عملك ، فلتعمل في أي شيء آخر فالقضبان تتحول آليا
- لكنني لا أريد أي عمل آخر ... أفهم سكينه أنني خلقت لتحويل المسارات ، صدقني إن لم أغيرها لن تتغير
- إذن لا فائدة ، سوف أرسل لك بعض الطعام
ارسلت أحد الصبية بفطيرة وبيضتان لعم إبراهيم ، إلا أنه عاد مسرعا والفزع يكسو وجهه ليخبرني بأن عم إبراهيم سلم نفسه للقضبان التي يعشقها؛ إلتهمه القطار الذي طالما ظن أنه يتحكم به
وانطبعت أشلائه علي السكة الحديد ، اكتست القرية بالحداد لبضعة ساعات حزنا علي المجنون الذي أنهي حياته الغريبة فجأة .
إلا أنهم في اليوم التالي أقاموا سرادق عظيم وتنافسوا في إحضار المقرئين طالبين العفو من المبروك ؛ نفسه الذي كان يحيا بينهم بلقب المجنون
كل ذلك لأن قطار الصباح انحرف عن مساره ولم تتبدل التحويلة ، فكثر البكاء والنواح علي عم إبراهيم وزادت مصمصة الشفاه ، من سيتولي التحويلة من بعدك يا عم ابراهيم .. خسرناك يا مبروك ...
أما سكينة فقد جنت ثروة صغيرة من بيع اغراض المبروك لأهل القريه وكانت دائما ما تزوره وتطلب له الرحمه !
لم يستمع يوما لكل العبارات التي تصفه بالجنون ، لم توقفه سيل اللعنات اليومي التي تصبه زوجته السليطة علي أذنيه .
كان عم ابراهيم يسير من الطريق العمومي وسط نظرات التشفي والشفقه ، وهمهمات وتهكمات الجميع ، ويمر بمحاذاة الترعة مداعبا فروع أشجار الصفصاف التي تهدلت في دلال تغتسل من المياه الراكدة ويعبر الجسر الضيق المبني من جذوع الأشجار وقطع الخشب البالية المصقولة بالطين ليستقر به المقام في الضفة الأخري علي قطعة الحجر التي ألفت جسمه
مسندا ظهره علي النخلة البور التي لم تسقط عليه رطبا قط ، معلقا بصره بالقضبان المثبتة في الأرض يتلفت من حين لآخر ينظر إلي اتجاة الظل وموضع الشمس .
كلما حان موعد قطار أسرع إلي ذراع التحويلة الصدأ ووجذبه ويعود ليسجل علامة علي الصفحة الترابية أسفل قدمه بعود الحطب اليابس
الذي يقلب به الجمرات تحت غلاي الشاي الذي إعتاد أن يشربه مع بعض لقيمات الخبز اليابس إن وجد
كثيرا ما ترددت عليه امرأته سكينة محاولة إثناءه عما يفعل ، صارخة في وجهه ..لاعنة التحويلة وعقله الخرب الذي يرفض الإقتناع بأن التحويلة آلية ، وما يفعله ليس سوي ضرب من الجنون ، وإن لم تكن آلية فمن أعطاه هذا الدور إذن ليحمل أعباءه !!
كانت تنهره وتتعالي صراخاتها طالبة منه أن يبحث عن عمل مجدي فقد تقرحت يداها وخارت قوها من التنظيف في بيوت القرية لإطعام الأفواه الجائعة ؛
فكان يجيبها حانقا ومن يتولي التحويلة ، كيف سيتغير مسار القطارات ، أرواح الناس يا عالم! .
ذات يوم كان صراخ امرأته يتردد صداه مدويا في بلدتنا أكثرت من إهانته وسبابه وهو لم يرد عليها قط ، كانت تلك المرة الأولي التي أري فيها عم إبراهيم منحنيا حتي كادت جبهته تلامس الأرض
ربت علي كتفه فإنزلقت دمعة من عينه رغما عنه
سألته
- ألم يكن ينبغي عليك العودة معها إلي البيت
- ما زلت أنتظر القطار القادم في آذان العشاء
- الوقت ما زال مبكرا بإمكانك أن تعود إلي البيت الآن وتعاود المجيء في موعد القطار
- الطل أرحم من صوت سكينه ، أحب أن ارح اذناي منها ومن صراخ الصغار
- لماذا لا تحاول أن تغير عملك ، فلتعمل في أي شيء آخر فالقضبان تتحول آليا
- لكنني لا أريد أي عمل آخر ... أفهم سكينه أنني خلقت لتحويل المسارات ، صدقني إن لم أغيرها لن تتغير
- إذن لا فائدة ، سوف أرسل لك بعض الطعام
ارسلت أحد الصبية بفطيرة وبيضتان لعم إبراهيم ، إلا أنه عاد مسرعا والفزع يكسو وجهه ليخبرني بأن عم إبراهيم سلم نفسه للقضبان التي يعشقها؛ إلتهمه القطار الذي طالما ظن أنه يتحكم به
وانطبعت أشلائه علي السكة الحديد ، اكتست القرية بالحداد لبضعة ساعات حزنا علي المجنون الذي أنهي حياته الغريبة فجأة .
إلا أنهم في اليوم التالي أقاموا سرادق عظيم وتنافسوا في إحضار المقرئين طالبين العفو من المبروك ؛ نفسه الذي كان يحيا بينهم بلقب المجنون
كل ذلك لأن قطار الصباح انحرف عن مساره ولم تتبدل التحويلة ، فكثر البكاء والنواح علي عم إبراهيم وزادت مصمصة الشفاه ، من سيتولي التحويلة من بعدك يا عم ابراهيم .. خسرناك يا مبروك ...
أما سكينة فقد جنت ثروة صغيرة من بيع اغراض المبروك لأهل القريه وكانت دائما ما تزوره وتطلب له الرحمه !
تمت بفضل الله
شيماء زايد
الأحد 31/1/२०१०
السادسه مساءا
هناك 21 تعليقًا:
u
فعلا أكثر من رائعه
وكالعاده يبهرني أسلوب حضرتك الراااااااااااااااااااااائع في الوصف
وكل مره بتعلم حاجه جديده
قصة جميلة فعلا
Ayman Unis
شكرا لك يا ايمن
اطراء نعتز به
m.ezzat
كذلك مرورك
شكرا لك
جميله جدا القصه دى
واسلوبك فى السرد للأحداث رائع
دمتى موفقه
السلام عليكم
اسلوبك فى السرد القصصى مميز تحياتى لابداعك
تحياتى
احمد الشاعر
بالفعل هي سطور رائعة تميط اللثام عن الذئاب المتخفية تحت وجه كل منا
المجنون قد يصير مبروكا ..والمخبول يصبح عالما جليلا فقدته الأمة..والذي كان رزية يفر من امامها كالمجذومين صار من الأطهار الذين كنا نرزق ببركتهم!!
وتدور الدائرة من جديد
تحياتي
"المياه الراكدة.. قطع الخشب البالية.. النخلة البور.. ذراع التحويلة الصدئ.. عود الحطب اليابس.. لقيمات الخبز اليابس"..كلها مفردات شكّلت المشهد القصصي، وهي نتاج تراكم سنوات طويلة من الجمود والاستسلام، فالصدأ لا يتكون هكذا فجأة.. والأشجار اليانعة لا تصبح بالية بين عشية وضحاها.. قصة تشخص بصدق واقع شعب كامل ألف الاستكانة "بمحاذاة الترعة مداعبا فروع أشجار الصفصاف التي تهدلت في دلال تغتسل من المياه الراكدة"..يــ"تلفت من حين لآخر ينظر إلى اتجاه الظل وموضع الشمس"، لكنه لا يحلم بالخروج إلى النور ولا كسر قيد جلاديه.. "منحنيا حتي كادت جبهته تلامس الأرض".. وفي النهاية يكون الحل هو الانسحاب بالانتحار بدلا من المواجهة..وحتى عندما يحين خلاصه بالموت يجد من يتاجر بقضيته ويستغل مأساته..
أحسنت يا شيماء وإلى مزيد من الإبداع المتألق
عايش... ولكن !!!!
كذلك حضورك جميل جدا
شكرا لك
مرور طيب
elsha3er
تناولت السرد بتعليق اكثر تميزا
شكرا لك
تايه في وسط البلد
تري من الذئب ومن الفريسه
ربما كلنا نحمل وجه ذئب ووجه فريسه
فلتدور من جديد
تواجد مميز من صديق مميز
أيمن جمال الدين
ربمت اراد هنا ان يختار مآساته قبل أن تختاره
لا تغب عني يا ابي
القصة فيها اكثر من فكرة
اولا اللغة بسيطة
ومفيهاش تعقيدات
وده بيدي للقاريء استرسال سريع
يعني لا يجد كا يعوقه عن القراءة
ثانيا استخدمتي مع عم ابراهيم كلمات
توحي بالإنكسار
أو اللي راحت عليه
جسر ضيق
جذوع الأشجار وقطع الخشب البالية
مصقولة بالطين
النخلة البور
التي لم تسقط عليه رطبا قط
حتى الكلمات جائت موحية لبطل القصة
وتمسكه بعمله الذي اصبح بلا قيمة
لكنه عندما وجد نفسه بلا عمل
أو بمعنى ادق بلا واجب يحيى من اجله
او مهمه يعيش ليؤديها
أو دور في الحياة
أستسلم للموت
ولتكون الحياة او القطار هما اداة الموت والقتل
ادوارنا تؤدى بألية
ليس لنا قيمة
غبنا او جئنا لن يغير شيء
فكان يجيبها حانقا ومن يتولي
التحويلة ، كيف سيتغير مسار القطارات ، أرواح الناس يا عالم! .
ذات يوم كان صراخ امرأته يتردد صداه مدويا في بلدتنا أكثرت من إهانته وسبابه وهو لم يرد عليها قط ، كانت تلك المرة الأولي التي أري فيها عم إبراهيم منحنيا حتي كادت جبهته تلامس الأرض
دي كانت لحظة الإنفجار
واخيرا النهاية
التي توحي بتمسكنا بالوهم
وحب العيش به
او هو تمسكنا بالقدوة
القدوة التي ناضلت طوال عمرها بدون ان تكل او تتعب
بل حتى كان في موته قدوة
إذا لم يكن لك دور
فالموت هو السبيل للنجاة
سيظل الوهم يعشعش في بيوت القرية
ملتمسين البركة من الميت على قضيب القطار
القصة رغم ان مشاهدها قليلة
إلا انها مكتملة دراميا
بل فيها تشويق للأحداث
............................
أحمد سعيد
سلمت يمينك
أيتها الرقيقة
قلتلك قبل كده: فيه نواة كويسة لكاتبة قصص قصيرة
أحمد سعيد..نيجر
نحليل وافي ونظره عميقه احيك عليها
شكرا لك زميل القلم الفاضل
drsonnet
لا يكتب عن الرقه إلا من كان نبعا لها
شكرا لك عزيزتي
micheal
شكرا لك ، دعواتكم بقي الثمار تطبع عما قريب :)
تستحق ان تطبغع وهي اكثر من جميله وتذكرني الكاتب يوسف ابوريه عندما يصف القرية
غير معرف
شكرا لك ، كذلك رأيك يستحق التقدير
إرسال تعليق