الجمعة، 28 نوفمبر 2008

الهمسة الثالثة عشر ( لوحة من لوحاتي )


أحضرت الفرش وألواني وبدأت أوزع بعض نقاط لتضيف بعض التغيير في فضاء اللوحة ، لم أكن أعلم ما قد أرسمه لكنني رسمت .
خانتني دمعة وانزلقت علي الألوان، أفسدت اللون الأبيض فاستبعدته .
أربعة عشر عام أو يزيد هي مدة معرفتي بأحمد صديقي العبقري كما أراه – المجنون – كما يرون ، قالوا أيضا أن صداقتنا ضرب من الجنون ، رسام ضيعة فنه مع باحث فاشل في الكيمياء النووية .
قد سألته يوما " كيف تكون صداقتنا ، صناعتي الجمال وصناعتك الدمار؟؟!!".
أجابني " أخطأت صديقي فصناعتي خير للبشرية ".
غدا يرحل أحمد ؛ ماذا قد يصلح هدية وداع أرسمها له ؟، آخر لوحة أهديته إياها كانت حصانٌ مجنحاً بلون الثلج الناصع يحلق فوق السحاب ، يتسلل ضوء القمر من بين قسمات جناحه الذي ستر نصفه ، ويبرق في عينيه التحدي بين ومضات النجوم .
أهديته حصان لأنه طالما عشق الأحصنة .
طالما كان هناك حصانا فوق مكتبه بارزا بين كتبه ودفاتره ، شامخا يستند علي قدميه الخلفيتين ، رافعا قدميه الأماميتين في تحدي .
وطالما كانت لوحاتي علي جدران غرفته كلها أحصنة ، انه عميلي الأول في شراء لوحاتي عن الأحصنة ؛ إلا انه لم يدفع ثمن لوحة قط !.
أهديته الحصان المجنح عندما فرغ من أبحاثه التي عكف عليها خمسة أعوام من تخرجه ، لست بعالم كي افهم نتائج أبحاثه ، لكنه بسط لي الأمر أن أبحاثه قد تغير مجري البشرية .
مرت سنوات من ذلك الوقت ولم أرسم أي أحصنه ، ومن ذلك الوقت لم يترك بابا دون طرقه يحاول أن يجد من يعطيه بعض الإنصات بلا جدوى .
رغم سرقت بعض أبحاثه وتحويلها عن مسارها الذي أراده إلا انه رفض أن يهدر وقت للدخول في صراعات دون جدوي ، همه الأكبر السعي لخير البشرية .
من حوالي شهر أو يزيد هاتفتني والدته ترجوني أن احضر لزيارته فذهبت؛كان باب عرفته موصد ينبعث من خلفه ضوء ضعيف مخنوق .
طرقت الباب ، توسلت إليه بحق صداقتنا أن يسمح لي بالدخول ؛ ودخلت .
وجدت الفوضى في كل مكان أوراق مبعثره ،كتب ممزقه ، اسطوانات محطمه جوار حاسبه الآلي الذي يكسوه التراب ، ولوحاتي تركت جدرانها وتكومت في أحد الأركان.
وحصانه لم يغادر مكانه إلا انه قد نكس رأسه فالتصقت بسطح المكتب وجسا علي قدميه الأماميتين ، وظلت قدميه الخلفيتين معلقه وكأنني لمحت في عينيه الاستسلام.
عدلت موضع الحصان فنكسه أحمد في عصيبة قائلا:
- لا تغير أي شيء .
- ولكن لا شيء هنا كما يجب أن يكون .
- ربما هكذا يجب أن يكون .
- عجبا أهذا أحمد حامي حمي النظام ... أود أن التقط صورة لغرفتك الآن حتى يراها من اقسموا أنهم لم يروا يوما ورقه قد وضعت فوق مكتبك مائلة .
- وهل ينصلح الكون إذا عدلنا من موضع كل ورقة ، قد كنت مضلا حقا يا صديقي ،لا مزيد من الأحلام .
- أحلام ... لم تتحدث يوما بلغة الأحلام د كنت تتكلم دائما بالحقائق والأرقام .
- بل قل أوهام ...لم أعد أريد أي شيء سوي الحقيقة الوحيدة التي انتظرها بفارغ الصبر.
- أي حقيقة ؟ .
- الموت ... الموت هو الحقيقة الوحيدة .
- ربما عليك أن تعلق لوحاتي من جديد ، قد تعود إلي رشادك كما أن رؤيتي لها معلقة هو السبب الوحيد الذي يجعلني لا أطالبك بثمنها.
- ربما عليك أن ترسم صور للمشاهير ، قد تدر عليك بعض الدخل .
- لم تكن تحسبها هكذا .
- ولما احسب ، هي هكذا .
- من أنت!!...أين أحمد!!، أنا لا اعرف هذا الشبح الذي يتحدث .
- وأنا أود النوم ... لا تكرر الزيارة لأنك لن تجد احمد القديم بعد اليوم ، وقد أمحو من داخلي أيضا كلمة صداقه التي جعلتني أدخلك غرفتي اليوم.
- امحي أي شيء لو أردت ... ولكن أرجوك لا تمحي أحمد .
و تساقطت دمعاتي رغما عني وأنا أتذكر حوارنا بللت الفرشاة فاضطررت إلي إبدالها وكذلك أفسدت اللون الأخضر .
وبدأت أرسم بالرمادي ،وضعت الخطوط الأساسية وانسابت يداي رغما عني تكمل اللوحة .
زرت أحمد بالأمس ودخلت غرفته كعادتي ، قد عادت إلي ما كانت عليه نوعا ما؛ رتب أوراقه وكتبه ومسح الغبار ، ولكن الحصان فوق المكتب ما زال منكس الرأس ومازالت لوحاتي مكومه في الركن .
وقد استقر فوق سريرة حقيبة كبيرة مفتوحة تتكدس حولها الملابس من كل جانب.
أخد يرتب الملابس داخلها وهو يخبرني أنه قد حصل علي فرصة عمل جيدة في الخارج حيث يمكنه أن يطبق أبحاثه ويجني الكثير من المال .
لم استنكر حديثه ولم أتعجب تحوله المفاجئ عن مبدأه الرافض للهجرة ، لم يكن الواقف أمامي أحمد الذي عرفته علي أي حال .
لذا لم يكن ردي سوي سؤال :
- متى السفر؟.
- فجر بعد غد ، هل ستأتي لتودعني ؟.
- بكل تأكيد ، معك حتى المطار .
ها قد اكتملت لوحتي ، أمامي بضع ساعات قبل انتصاف الليل يجب أن انتظر جفاف اللوحة لأحملها إلي صانع الإطارات فيصنع لها إطار ذهبي باللون الذي يفضله أحمد ، أو أي لون لم اعد أوقن انه مازال يفضل الإطارات الذهبية ، لم اعد أوقن بأي شيء .
و أصبحت اللوحة جاهزة بعد أن وضعت لها إطار ذهبي براق ، وذهبت أودعه بادرت بالحديث:

- قد أحضرت لك هدية ،علها تذكرك بي .
- قبل الهدية أود أن أشكرك علي كل شيء ،وأرجو أن تستعيد لوحاتك .
وأشار بإصبعه إلي الركن الذي تكومت فيه لوحاتي ،إلا أنها هذه المرة كانت داخل صندوق ورقي .

- حسناً ... سوف أخذها وإن كنت أظنها ألفت جدران غرفتك .
- اللوحات لا تألف ولا تشعر يا فنان ، ألن ترني هديتك .
- هديتي ...نعم ... لا تظنها شيء ثمين ،إنها لوحة ، فلا أملك سوي فني .
- ربما عليك أن تسوق فنك بالخارج .
- ربما نعم ، وربما لا ...
فضضت غلاف اللوحة فتجلت للعيون .
- طائرة معدنية !!...، توقعت أن تكون حصان.
- لم استطع أن ارسم غيرها ... وقد علمتني عدم التوقع ، فلنتحرك حتى لا تفقد الطائرة .

أوصلته حتى المطار ...احتضنته بكل المعاني التي تخللت سنوات عمرنا معا ، امتزجنا فلم أعد أعلم من منا العالم ومن الفنان ، وانفصل عند النداء الأخير للمسافرين .
ركب الطائرة وقبل أن يعبر بوابتها ؛ألقي شبه ابتسامة خلفه تحمل الألم والسخرية في نفس الوقت .
اخشي أن تكون كافة لوحاتي القادمة عن الطائرات .

،تمت بفضل الله
شيماء زايد
6/11/2008
1:45 ص

هناك 18 تعليقًا:

مي القوني يقول...

أحب أن أكون أول من علق .. لا أدري لما ..

و رغم حبي للأدب فلم اكن اسمع همساتك في الماضي .. لا أدري لما صعد صوت الهمس في أذني الآن..

و رأيت همساتك قصصا و طريقا و صديق .. لا أدري سوي أني أحببتك ..

وتذكرت كلمات رنت في أذني من رجل قد كان يوما أستاذي كانت تروي عكس ما فعل أحمد.. قال لي : " إنما الأمل ينبع من رحم المعاناة "

فارسميها في لوحة من لوحاتك يا فنانة و ارسليها اليه وديعة ....

شيماء زايد يقول...

حبيبتي
مي القوني

ربما لم اكن من قبل أهمس ، او ان همساتي كانت خرساء .

ولكن الحياة علمتني ان الصرخات المدويه تبدأ بهمسات مكتومه ، وقد اخترت البدأ .

من حوالي خمس سنوات وعلي مسرح رعايه الطلبه قدمنا اول امسيه شعريه سويا كنا نعتلي نفس المسرح ونتشارك الابيات ، وكانت خطتنا ان ننزل وسط الجمهور لنلقي الابيات من بين الحضور
كانا طريقانا متوازيان حتي اذا انهينا الابيات وصفق الجمهور
هرولنا سريعا لنستعيد اماكننا علي المسرح ،
ربما من ذلك الحين او قبله بكثير احبك واحترمك واقدرك
ولكن كان لابد ان نعود لخشبة المسرح سويا لندرك ما لم نكن ندركه ، انه القدر حبيبتي النقيه .

وعن احمد ، فليس كلنا احمد وسبق ان رسمت "دافع عن احلامك "، وقريبا احاول ان اقتنص لنفسي بعض الشرف باقتناء كلماتك في لوحة جديده "انما الأمل ينبع من رحم المعاناة".

همسه خاصه بكل الحب .

الوردة البيضا يقول...

السلام عليكم
عزيزتي شيماء
إحساسك الرائع له مذاق خاص.. مذاق الصدق والحرارة والفن. للأسف كل موهوب أو عالم أو مفكر حقيقي في مصر أصبح أحمد الواقع بين شقي الرحى: إما أن يعيش مهمش وبائس ومحطم على أرض وطنه الذي لا يقدره ولا يستفيد بإمكاناته، وإما أن يغادر هذا الوطن الذي يعشقه ليحقق أحلامه على أرض الغربة، وليفيد بها الغرباء.
أعجبتني أيضا لوحة الطائرة المعبرة للغاية عن موضوع القصة.
خالص تحياتي وتمنياتي لك بالتوفيق

شيماء زايد يقول...

الفنانه
وقلما أجد من يستحق هذا اللقب
الورده البيضا الجميله
تعليقك ايضا لهما مذاق الصدق والحراره والفن .

كلنا احمد حبيبتي ولكن (غدا تحنو علينا الشمس )
ولا مزيد من لوحات الطائرات باذن الله

موناليزا يقول...

دمتى صاحبة قلم وريشة تستحق الاشادة

شيماء زايد يقول...

موناليزا الجميله

دمتي صاحبة أرق واجمل تعليق

أيمن جمال الدين يقول...

سيظل الحصان المجنح في خيال الأدباء الحقيقيين أقوى من أي طائرة.. وطالما وجد هذا الخيال الخصب فلن تعدم الروح التحليق حيث شاءت حتى إلى المدينة الفاضلة التي ما زال الإنسان يبحث عنها منذ أن أشرق فجره على العالم.

شيماء العزيزة..نقلة جديدة في طريقك نحو القمة.. ولوحة تدل على عبقرية الريشة التي رسمتها.. والأهم عن الإحساس العذب الرقيق الذي تتمتع به صاحبتها.

شيماء زايد يقول...

ابيه ايمن

الفنان والمبدع والاديب
شرف عظيم ان تخط في مدونتي بعض من دررك الثمينه

الحصان المجنح مطيتي للوصول للجمال الكائن داخل النفوس حيث ابواب المدينه الفاضله .

واهم المهم ان تروقك اعمالي المتواضعه .

Hanan Elshafey يقول...

حبيبتي شيماء ، فعلا هذه اهم لوحاتك وهمساتك ، صادقه للغايه معبره بعمق ، كلنا للاسف احمد ، ولكن الشجي فينا من يقدر ان يهزم طائرته ويمتطي جواده مرفوع الراس قوي الشكيمه، وهو من يستحق منا التعليق ، اشكرك علي معاونتك لي في مدونتي ، واتمني ان تدوم همساتك ...

شيماء زايد يقول...

حنونه الجميله

اردت في اقصوصتي أن ارفع واقع ، لا اعني اني متقبلاه ، ولا أعني اننا نجب ان نحياه

وانما علينا تحطيم لوحات الطائرات ورسم لوحات لاحصنه مجنحه تشمع منها القوه والثقه ويفترش طريقها الأمل .

همساتي دائمه ما دامت تعليقاتكم .

ساحر العشق يقول...

رسمتي لوحة مبدعة بكلمات كانت اجمل من الالوان

واسمحلي لي ان احتفظ بها كي اضعها في اكبر معارض العالم الرومانسية

كلمات احترت في وصفها اسلوبك ابهرني

تمنياتي لكي بمزيد من التألق في مجالك

شيماء زايد يقول...

تذوق الالوان يحتاج عيون راقيه ونفوس شفافه
كلماتك اعجزتني عن شكرها اطرائك اسعدني
ساحر العشق
تمنياتي كذلك ببلوغ اعلي مراتب السحراء

غير معرف يقول...

حبيبتى شيماء

شعرت وانا اقرا قصتك باننى اشاهد تدفق الالوان وانحسارها ..

فعلا شعرت بصراع فرشاتك واقلامك ..

شعرت بفرشاتك الرقيقة التى اجبرتها ان تتخلى عن علاقتها الحميمه بالطبيعة الخلابة وتنزوى الى الطبيعة الصناعية فتتثاقل الفرشاة ووتبلور وتكتسب لوحاتك الالوان المعدنية ..

المهم فى الامر ان يبقى اللون المعدنى فى اللوحات فقط .. ويحافظ القلب على الوان الطبيعة العذبة فهى المداد الحقيقى للفن .. والحياة ايضا ..



تحياتى شيماء على هذا الابداع المتجدد دائما

اختك المحبة
الشيماء

غير معرف يقول...

منذ زمن وانا لم اقرأ كلمات تحوى كل هذا الاحساس الصادق حتى ان دموعى سقطت دون ان اشعر
وانا ايقن ان احمد لن يستمر هكذا طويلا و عن قريب سيطلب منك هو بنفسه ان ترسمى له حصان وصل الى عنان السماء حاملا بين جناحيه النجوم قادما بها الينا لينثرها فى قلوبنا حتى يضىء الكون بقلوبنا فنستطيع ان نفرق بين اللون الابيض عن الرمادى
أبدعتى شيماء كما انتى دائما وايقظتى بداخلى لحظات وايام افتقدها كثيرا واشتاق ولو للحظة منهاان تعود
وحشتونى كلكم
مها النعناعى

شيماء زايد يقول...

الشيماء
يكفي ان اجد اسمك لاعلن عن حضور قارئة ما وراء سطوري او ربما ما وراء نفسي احياننا
بعض القلوب حبيبتي تحيا بألوان الطبيعة
فهي مصدر الحياة للقلوب المحبه
والتي هي تنبض للحياة
خالص تحياتي الممزوجه بخوفي (:

شيماء زايد يقول...

مها النعناعي

اوتعرفين حبيبتي يكمن الابداع ايضا في التلقي
لم اجد متذوقه ارهف منك حسا
ولم اقابل في حياتي اصدق منك ادراكا للفن والادب
لست اسفه لما سقط من دموعك الغاليه
طالما ايقظت بداخلك اجمل لحظات العمر
قد تكون تلك الذكريات وقودنا لفصل الالوان حبيبتي وابقاء اللون الرمادي جانبا .

غير معرف يقول...

سيدتي
مصير احمد هو مصير كل عباقرة و علماء و مبدعي الوطن العربي انهم يهاجروا الى الغرب باعتبار ان فرصة العمل موجودة و تفرصة تحقيق الذات
سيدتي ليه هذا المصير لوجودهم في ظل دول لا تستثمر هذه الكفاءات من اجل نهضة بلدانهم مش لانه لا توجد عندنا الامكانيات لا لانهم استحوذوا على كل شيء و مايهمهمش ابدا ان بلداننا تتقدم كل اللي يهمهم انهم يحافضوا على كراسيهم الوثيرة بمساعدة الراسمال الاجنبي لان هذا الخير عينوا فقط على موادنا الاولية و خيرات بلادنا يستنزفها بابخس الاثمان
مودتي

شيماء زايد يقول...

الاخ الكريم
وجهك نظرك تحترم
والنتيجه مكرره لاحمد وامثاله
خالص مودتي