الجمعة، 24 ديسمبر 2010

الهمسة الثامنة والعشرون ( هارب )


"هـــــــــــــــــــــــــــــارب"

الصورة لعازفة الهارب الفنانة منال محي الدين

ضعيف أنا مع كل الآلات الوترية...
تهتز أوتار (الهارب) تحت أناملها الدقيقة، تتقافز الألحان، تنسجم مع نسيج ملامحها الهادئة.. يتسلل النغم الحزين.. تقوده بإشارة رفض من رأسها... تواصل النسج، وكأنها تغزل أوتاراً من قلبي، ينساب منها الإيقاع...أتذكر أول عهدي.. السلم الموسيقي:
دو.. ري.. مي .. فا..
فضاء الحجرة كان ملاذي للتأمل، أتفقدُ الآلات الصامتة.. عقب وصلة من الاستماع المسترق البديع، أزداد خشوعاً أمام الأوتار... أتلصص عليها، دون أن أمسّها... وتزداد رهبتي في حضرة العود، إلا أن الرهبة اليوم تتضاعف أمام رؤيتي للساحرة الصغيرة تقود الجنيّ العملاق،  يستجيب لأوامر أصابعها...تنحني أوتاره احتراماً لها... تتهادى أصواته الرهيفة، وتتردد في فضاءات السماء، فترتعش الأضواء، تاركة علامات براقة على جسدها النحيل.
العالم من حولهما يرقص رقصة كلاسيكية بطعم الشرق، وهما في وقفتهما شامخان يتبادلان العطاء. 
دائماً ما كنت أنسى المفتاح.. وأواصل الكتابة... صول ..لا ..سي ..دو.
دوري  كمُقعد في مسرحية الجامعة لم يؤلمني، كما يظنون، أديته ببراعة.. لا أحد يستطيع أن يحبك الدور مثلي.
كان يؤلمني عجزهم؛ ذلك العجز الأبدي الذي يجعلهم بعيدين عن إدراك الحياة... تلك التي جعلوا منها مأساتهم دون مأساة.
وأنا من مقعدي قديماً..  كنت أراه العرش، أراقب من شرفتي لعب الصغار.. مباريات الكرة التي غالباً ما تنتهي بالعراك الصبياني، جيوش الفرسان بالعصي الخشبية، قفزاتهم البهلاونية من فوق ظهور بعضهم البعض، وقد تقوس الواحد منهم ماسكاً ركبتيه بكلتا يديه، ويتوالى قفز الآخرين من فوق ظهره.
ظنوا بأنني أتمنى أن أفارقه، وأكره مكوثي بين يديه، أنني أتطلع للسير.. للركل.. للركض..  
أبداً، لم أجد في الركض متعة، كانت متعتي الكبرى أن أسبق برؤيتي أجسادهم اللاهثة وهم يتفحصون مواقع أقدامهم.. أستمع إلى فقرة الأغاني على إذاعة الشرق الأوسط، وأتابع مغامرات (تان تان) إلى ما وراء حدود البصر.. 
لم أشعر أبداً بالعجز...قبل اليوم...
أبقوني في الصف الأخير حتى لا أعوق الممر بالكرسي ذي العجلتين الكبيرتين.. استيقظتْ عاهتي من غفلتها.. وقتها تمنيتُ أن أفارقه ولو لساعة.. أحطمه، وأتجاوز ركامه.. وأنهي ارتباطنا المقدس الذي لم أشكُهُ يوماً.. وأقف شامخاً أمامها، وأبرع في فعل المشي الذي لم أتعلمه يوماً...أقدم لها باقة من الأزهار الوردية، تتوسطها قرنفلة بيضاء.. ساعة واحدة أقترب فيها من مركز الكون الذي تشكل فيها.
الواقع الجامد أمامي أقسى من التغلب عليه، تشكل الكون كله في ما أراه، ولم أستطع أن أتجاوز الرؤيه كسابق عهدي.
يتسارع الإيقاع ... تزداد توهجاً...ينشط نسيم الهواء الطلق..تتداخل كل الألوان والأضواء..
أتطلع للصف الأول، والصف الأول لا يتطلع إليّ..
 ينفطر القلب بالتمني.. تمني القرب منها.. لا كما يتطلع رجل لامرأة.. فقط أردتُ رؤية التماع عينيها الذي أستشعر وجوده بقوة.
تعلو أصوات كل الآلات.. ينفرد الهارب بالصوت الأعلى.. الصوت الأثري.. الصوت الأعمق،  وتنفرد هي باحتضان الهارب.. بلمسة أم تهدهد ابنها الطفل الكبير.. يصفق الجمهور.. يتلاشى الصوت..
ينفرد الخبر أسفل صورتهما في الجريدة وعبارة (تمت).
***

تمت بفضل الله ،
شيماء زايد
الاثنين
25/11/2010
11 مساءا