الثلاثاء، 22 ديسمبر 2009

(قطيفة بلون الزيتون ) بقلم الناقد والأديب رضا إمام همسة مهداة إلي صاحبة الهمسات (شيماء زايد )


*قطيفة بلون الزيتون *

قصة قصيرة بقلم الناقد والأديب (رضا إمام )


إلي / شيماء زايد




وقال لها في ذاك اليوم : لا تشربي من يد أحدٍ غيرك ، فيزيد عطشُك.
ثم رفع كفها الصغير إلي فمه ، وقبلها .
بالتأكيد كان أبي يرحمه الله – رغم سخرية الآخرين – هو الوحيد الذي يرى ظلال الشجر اليابس ، وهو يتحرك من خلف الكثبان الرملية من مهد صحرائه السحيقة ، زاحفاً وحتي مشارف المدينة . وهي رفضت هدية الجمعية الخيرية ..جاكيت القطيفة الزيتوني.
كانت إذا ما إشتد الإبتراد؛ تنكمش .. تنفرد ، صانعة طبقات جديدة لجلدها الرهيف . فلتصفعها الشتاءات كيف تشاء ،لكنها لن تتراجع ، ولربما يأتي صيفٌ هجُيره يُقدد الأوصال ،ولا يهمها،فالحصوات تحت اللسان جاهزة ،تستحبلها إذا ما إشتد الظمأ.
أبي. أعرف أنك تسمعني الآن ، فلربما تأتيني الشجاعة لأن أخاطبك من خلف هذه الجبال والهضاب والوديان . أأقول لك بأنني ما خالفتُ وصيتك ابداً ، إلا مرة واحدة ، يومها سمحتُ له فيها-فقط- أن يمسك بيدي ، وأنا أشرب كأس الفراولة ، فساعدني أن أرتشف بعض الرشفات ، أوتتذكر يا أبي عصير الفراولة ، ومن جعله مشروبي المفضل ؟ أليس هو أنت .
أنا كبرت يا أبي ، ورفيقاتي كلهن تزوجن ، وأقسم لك بأنني ما أردت الزواج إلا لحلمي بولد يشبهك .. اسمه علي اسمك ، لكنه سافر يا أبي إلي هذه الخلجان الضاوية بذهبها المُملح ، وطالت غيبته ، ولم يعد ، صارت أغنية "فيروز" أنشودتي الأثيرة :

"نطرتك أنا
ندهتك أنا
رسمتك علي المشاوير
يا هم العمر .. يا دمع الزهر
يا مواسم العصافير .."

يقولون جميعهم : أنني ورثت نشفان الدماغ واللماضة عنك ، وأن وجهي استدار ، وملامحي تُختت ، فأصبحت صورة طبق الأصل من صورتك المعلقة في غرفة الصالون ، المؤطرة بالسواد.
أحياناً أُغلق عليّ غرفتي ، وأدخل في هذا البالطو البني ، المفضل لديك ، وأروح وأنا أجرجره ، أُقلد مشيتك ، التي كانت تشوبها زكة خفيفة ، وكنتُ كلما انتويت سؤالك – في حينها- عن السبب ، أنشغل ، وانسي ، أراك في جلوسك في الصالة علي كرسيك المفضل ، الذي هبطت مقعدته ، فصارت قريبة من الأرض ، فارداً ساقيك قدر الإستطاعة ، تاركاً لي حُرية خلع حذاءك ، وكم كنتَ ترفض في البداية ، ولما أدركتَ أن هذا الشيء يسعدني ؛ تركتني ، وحين تعلو الأصوات قليلاً ، ترفع يديك مشيراً أو محذراً ، أركب كل المقامات لأحاكي صوتك :
- يا بنتي . خذي لك كتاب . صفحيه، أحسن من دخولك وخروجك من غرفة لغرفة .
ساعتها كنتُ أحس أن أذنيّ ليستا في رأسي ، لكنهما متحفزتان داخل صدري .
أعرفك يا أبي بأن أشياءك كلها مازالت بمكانها في الحفظ والصون ، فلديّ أحساس خفيّ بأن غيابك لن يطول : نظارة المشي والقراءة .. مظلة الشتاء والصيف .. مبسم السجائر .. لبيسة الأحذية .. عصاتك الأبنوس إذ يعلوها رأس أسد معدني .. أقلامك الحبر .. الورقة المسطرة بمشبكها ، لتضع عليها الورقة البيضاء حين الكتابة .. مقالاتك في المجلات والجرائد .. صورك مع أصدقائك الذين لم نرَ واحداً منهم بعد رحيلك .
كما أعرفك يا أبي . بأنني قد اكتسبت ُ خبرات جديدة ، وأصبحتُ ماهرة جداً في استعمال الكمبيوتر ، وإنه بإمكاني الآن أن أجمع مكتبتك هذه المهولة في قرص بلاستيكي صغير ، كما أنني نجحتُ في أستأناس الثعابين والضباع والذئاب وتجار الخُردة ، وجعلتهم يطربون لوقع كلماتي ، ويشيدون بقصصي القصيرة .
أوتعرف أن الحُلم الوحيد ، الذي يأتيني أثناء ساعات نومي القليلة ، الحُلم صار مكروراً ، ولا أستطيع أن أتخذ موقفا تجاهه، لأنني لا استطيع الوصول إليك ، في كل مرة أراك هكذا رابضاً – من بعيد- علي قمة الجبل كأنك "أبو الهول" تحرس الكون الفاني ،وهذا العصفور السابح في فضاء الوادي أمامك ، فما أن ينتزعوا عنه جناحيه ، ويبدأ في فقدان توازنه ، والدخول في دوامة السقوط ، حتي تتنابت له أجنحة جديدة ، ويعاود التحليق ، لاشيء يتغير في الحُلم سوي لون الفراغ ، الذي يتراوح ما بين الشفقي والرصاصي والبنفسج المخنوق .
تساءلني عن حالتي هذه غير المستقرة ، وأنني صرتً إما عصبية كقطة ينتزعون منها صغارها ، وإما راكدة كوصلة ريح مجذوذة . صدقني . وأنت تعلم كل شيء .
الحكاية كلها لا تتعدي عملية دفاع تلقائية عن النفس تجاه هذا الحزن المقيم .. الغول المسمي باليُتم .
ثم ألم تعلمني أنت : أن نصف الحلول منطقة مأهولة بالريبة ، فأنا لا أريد أن أصبح عانساً ، ولا أريد كذلك أن أصبح كاتبة أو مصممة جرافيك نصف كم .
ولمَ لا تقول أنه شيء وراثي فعليّ أن أدفع ثمن الدفاع عن رؤيتي كما دفعت أنت ثمن الوقوف في وجه الريح الفاسدة .
أبي . دعك من هذا ، فقد جاء دوري الآن لأسألك : كيف هي الحياة عندك ؟
بالطبع قابلت جدي هناك . كيف هي أحواله ؟ أمازال يهوي شرب القرفة باللبن وزراعة الزهور ؟
ولماذا صمتك هكذا يطول ؟ آه .
فقد نسيتُ أن الوقت ينتهي دائماً عند هذا السؤال .
نَظَرت لأسفل حيث منبت ظلها ، وناست علي شفتيها إبتسامة ، فدائماً- لطول سيرها عبر متاهات المسافات – ما يلتصق بقديمها هذا الصندل الجلدي المنحول ، ولا تكتشف ذلك إلا حين وضوء الفجر ، أنَسّيت من التعب ؟ أم أخفقت في خلعه قبل أن تنام ؟
لا يهم الآن فالنتيجة واحدة – فَرَدت الورقة الصغيرة أمام عينيها، لتتأكد من عنوان العمل في الإعلان المنزوي بالصفحة ، ربما تكون المحاولة رقم ... هي بالتأكيد لا تتذكر رقماً محُدداً ، لكنها لن تمل البحث والطرق علي كل الأبواب .
طَوت الورقة ، دستها في حقيبتها ، ومضت بخطوات ، جاهدت أن تكون واثقة ، ( وتهز رأسها علامة الموافقة علي أنها لاحظت هذه الزكة الخفيفة في مشيتها ) مضيت يَرنّ في أذنيها صوت أبيها الرخيم ، وعيناها تجوبان السماء الفسيحة ، وتتسرب الإبتسامات فجأة لما تري عصافير الفضاءات ، التي ما تكاد تهوي حتي تعاود التحليق مرة ثانية
.

تعقيب ( بقلم شيماء زايد )

لم اتعجب ان تجمع ملامحي من بين سطوري ، لم اتعجب ان يكون حدسك عميقاً ليري ما خلف السطح الظاهر ولم احدثك به يوما ، لم اتعجب ان تمزج كل ذلك بخيال خصب ، ولكن كل العجب ان تعلمني في نفسي أشياء لم أكن أعرفها
اليوم فقط أدركت أني حقا أديبة كما تقول عني ولم أكن أصدق أتعرف يا أستاذي لم؟
لأن أبي الروحي ( أبيه أيمن جمال الدين ) أخبرني يوماً أن الأديب لا يفهمة سوي الأديب ، وأنت راهب الأدب الذي يضيء الشموع للصغار كل مساء .
عمو رضا كما تحب – وأحب- أن أناديك ،هلاّ علمتني كيف يتثني للتلميذة الضئيلة أن تشكر أستاذها العظيم ؟!!

الأحد، 6 ديسمبر 2009

الهمسة الثانية والعشرون (دموع الزهور )

دموع الزهور




" الزهور مثلنا تضحك وتبكي "

مازالت كلماته تتردد في مسامعي ، يترائي لي وجهه المليء بالتجاعيد وهو يبتسم يده المرتعشه وهي تربت علي ظهري ، طالما ارضي فضولي بأجوبته ، طالما أرضاني بوجوده

" كزهر العباد سيري في اتجاه الضوء"

اتلمس السبيل نحو الضوء يتحسس خطواتي زهر العباد ولكن الشمس نسيت ان تشرق فوق قلبينا ، ها نحن ننتظر الصباح بجذوع منحنية

" لا احد غير الزهور قد يعلمك لغتها ... اسأليها لعلها تجيبك "

لم يعلمني احد شيئا سواك ، تقليم الزهور ॥ تنسيق الحدائق ... العزف علي اوتار الطبيعه ، وعندما خطوت خطواتي الاولي احضرت لي حصاني الخشبي الذي ما ان ركبته حتي اطلقت جناحاي تخبطت ضفائري علي وجهي ، انحل الشريط الأحمر ، حلقت بعيدا .. فسقطت فوق اشواك الحديقة ...

"الزهرة الورديه ، أبيه "

الزهره الورديه يا جدي تئن ، تحدثني بوحدتها بوحشتها بخشونة راعيها بقلة حيلتها ،اراها تذبل فلا اجد ما ارويها به سوي العجز
لما باعوها لمن لا يستحق ، ربما لو قالت "لا" لاستجابت ضمائرهم الصماء

" القرنفل الأحمر ، محبه "

القرنفله مكسوره يا جدي ، لا احد يعلم بكسرتها ، كل الايدي تطلعت لقطفها فكانت الاشواك جزاء العابثين ، وعندما ارتضت مداعبة يد حانيه... كسرتها ، لم تخبرني يوما إذا كانت هناك جبيرة لساق زهرة ، ليتك علمتني يا جدي كيف اجبر الكسور

" الكاميليا البيضاء ، جاذبيه "

زهرة الكاميليا اعتزلت كل الزهور رغم رونقها وتفردها إلا ان النسيم خلف موعدهما ، انتظرته طويلا حتي ملت الانتظار واضحت عبارات المواساه تحرقها ، فقررت الانزواء ، لو تعلم ان وجودها ميلاد للبراءة والجمال لآثرت البقاء

" اختر مآساتك قبل أن تختارك "

أليس هناك خيار آخر ، هل تسلبنا الحياه ثمن ضحكاتنا القديمه ، هل لنا ان نضحك قبل أن نبكي ، او نبكي قبل ان تبكينا الحياه ...

عندما تتلون السماء بحمرة الفجر سوف يظنون جميعا ان الزهور تعلوها قطرات الندي ، ولكنني اعلم جيدا انها دموع الليل
سوف اجمع كل الدموع ممزوجه بدموعي واروي بها نباتات الصبار علي بابك يا جدي ، واعذرني فشجرة الياسمين ابت ان تنبت في تربة قبرك فلم يبقي لي ولك سوي الصبار
تمت بفضل الله ،
شيماء زايد
5-12-2009
العاشرة مساءا