الجمعة، 1 أغسطس 2014

ما بعد الهمس 4 ...(كابينة 13)






كان يدرك في قرارة نفسه أنه مختلف ..لا يهم إذا ما كان الأمر جيداً أو سيئاً ، ولكنه لا ينتمي لهذا المكان ...يسوءه ذلك الباب الموصد والهواء المتسلل من الشبك الحديد لا يرضي رئتيه المتطلعة للفحات الهواء المرتطم بجبهته العريضة وهي كرأس السهم تشق براح الفضاء  بلا أسوار ..
عيناه الواسعتان البراقتان كانتا تشيان بحزن عميق متشعب داخل أوصاله التي لا تداعبها الشمس إلا قليلا ..
عرقوبه المصاب لم يكن ليثنيه عن تأدية فقرته بشموخ رافعاً ذيله الطويل ومبدلاً أرجله بين ثني ومد ملامساً الأرض أو مبتعداً عنها يؤدي رقصته الاستعراضية علي أنغام المزمار يشنف أذنيه الصغيرتين رقيقتي الأطراف بتصفيق وتهليل الجماهير ..
يود لو يسقط ذلك القابع فوق ظهره ويتخلص من قيد جيده  ويرقص ركضاً دون توقف ، يزعجه السوط والعصا ووحدته داخل (كابينة 13) ..
الصغيرة  صاحبة الضفائر الذهبية .. ابتسمت له ..غافلت أباها الذي يحملها ومدت يدها من خلف القضبان وربتت بين عينيه .. استسلم لكفها الرقيق ، وترك لها حرية خلخلة أناملها بين خصلات شعره .
أصرت أن تفتح النافذة الحديدية الشبكية  ؛ رغم اعتراض الحارس وتحذير كل المحيطين من غدر الفرس ، مررت يداها علي جيده وشعره وجبهته .. قبلته .. تناغما ..
تبادلا الحنو بالتلامس .. ثمة خلايا حية تنتقل بينهما تتوحد كنسيج موصول بين جسدين ، جسر من الأمان المتبادل .. ضحكت ..رفع رأسه ..نحاها أبوها جانبا ..
ثني عنقه خارج الكابينة ، كانت في إنتظاره الفرسة البنية الشهباء تطل من كبينتها المجاورة  ..
حاول الأب مداعبته ..رفض.. صهل ..هلع الجميع ..أسرع الحارس بغلق النافذة ..
ركل الباب مرات ومرات دون جدوي .. كانوا بالخارج يثنون الفتاة عن فتح النافذة مرة أخري  يخبرونها عن حوادثه السابقة في الركل والعض ..يصورونه كشيطان مشاغب صعب الترويض .
وعجز هو أن يخبرها أنه قادر علي الفتك والقتل ، إلا أن شيئاً ما في تكوينة يأبي الغدر ..وشيئاً أكبر يأبي الإهانة ..وأصالة ما داخله لا تنصاع  للحبس المنفرد ..
البنت رحلت بعيون دامعة وصوت ارتطام حدواته بالباب الحديد يرن في أذنيها ، بينما انسحبت الفرسة الشهباء - القصيرة القامة نسبيا-  بهدوء إلي الداخل ، غير عابئة بثورة صاحبها ونافذتها المفتوحة دائماً ...